جزء قَدْ سَمِعَ (سورة التغابن(1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(سورة التغابن 1ـ 10)
1) مسائل العقيدة في هذه الآيات.
* توحيد الربوبية (أفعال الباري سبحانه)
في قوله تعالى (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ*)سورة التغابن (1ـ3)
* قال ابن كثير :
ـ قَالَ تعالى( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا يخلقه ويقدره.
ـ قوله تعالى( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَيْ مَا أَرَادَ كَانَ بِلَا مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ وَمَا لم يشأ لم يكن.
ـ قوله تَعَالَى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أَيْ هُوَ الْخَالِقُ لَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَرَادَ مِنْكُمْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ.
وَلِهَذَا قَالَ تعالى (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وَهُوَ الْبَصِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَ، وَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِ عِبَادِهِ وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَتَمَّ الْجَزَاءَ.
ثم قال تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ.
ـ قوله تعالى (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أَيْ أَحْسَنَ أَشْكَالَكُمْ.
وقوله تعالى (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.(تفسير ابن كثير 4/ 478ـ 479)
* سعة علم الله تعالى .
في قوله تعالى(يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)سورة التغابن (4)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
ـ قوله تعالى (يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي: من السرائر والظواهر ,والغيب والشهادة .
ـ قوله تعالى(وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي: بما فيه من الأسرار الطيبة ,والخبايا الخبيثة ,والنيات الصالحة والمقاصد الفاسدة ,فإذا كان عليماّ بذات الصدور ,تعين على العاقل البصير ,أن يحرص ويجتهد في حفظ باطنه ,من الأخلاق الرذيلة واتصافه بالأخلاق الجميلة .(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 348)
2) الوعد والوعيد في الآيات.
* ما فُعل بالأمم والقرون السابقة :
في قوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)سورة التغابن (5ـ6)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
أخبر بما فعل بالأمم السابقين , والقرون الماضين , الذين لم تزل أنباؤهم يتحدث بها المتأخرون , ويخبر بها الصادقون , وأنهم حين جاءتهم الرسل بالحق , كذبوهم وعاندوهم , فأذاقهم الله وبال أمرهم في الدنيا , وأخزاهم فيها .
ـ قوله تعالى(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) في الدار الآخرة .
و لهذ ذكر السبب في هذه العقوبة:
ـ قوله تعالى (ذلِكَ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي: بالآيات الواضحات الدالة على الحق والباطل ,فاشمأزوا, واستكبروا على رسلهم .
ـ قوله تعالى (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي: فليس لهم فضل علينا , ولأي شيء خصهم الله دوننا .
فضل الله ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلاّ للخلق ,واستكبروا عن الانقياد لهم ,فابتلوا بعبادة الأحجار والأشجار.
ـ قوله تعالى (فَكَفَرُوا) بالله.
ـ قوله تعالى (وَتَوَلَّوْا ) عن طاعة الله.
ـ قوله تعالى (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) عنهم ,فلا يبالي بهم ,ولا يضره ضلالهم شيئا
ـ قوله تعالى (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) أي: هو الغني ,الذي له الغنى التام المطلق ,من جميع الوجوه ,الحميد في أقواله وأفعاله وأو صافه.(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 349)
3) مسائل العقيدة .
1/ الإنكار ر بالبعث والجزاء:
في قوله تعالى (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)سورة التغابن (7)
* قال ابن كثير :
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الكفار والمشركين وَالْمُلْحِدِينَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ
ـ قوله تعالى(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أَيْ لَتُخْبَرُنَّ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ بَعْثُكُمْ وَمُجَازَاتُكُمْ،
وَهَذِهِ هِيَ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْسِمَ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ وَوُجُودِهِ
ـ فَالْأُولَى فِي سُورَةِ يُونُسَ (وَيَسْتَنْبِئونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يُونُسَ: 53]
ـ وَالثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأتِيَنَّكُمْ )[سَبَأٍ: 3] الآية.
ـ وَالثَّالِثَةُ هِيَ هَذِهِ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).(تفسير ابن كثير 4/479)
2/ الأمر بالإيمان بالله في الآية:
في قوله تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
ـ قوله تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ ) لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث ,وأن منهم موجب كفرهم بالله وآياته, أمر بما يعصم من الهلكة والشقاء ,وهو الإيمان بالله ورسوله وكتابه
وسماه الله نور: ما في الكتاب الذي أنزله الله من الأحكام والشرائع والأخبار ,أنوار يهتدي بها في ظلمات الجهل.
والإيمان بالله ورسوله وكتابه يقتضي الجزم التام ,واليقين الصادق بها ,والعمل بمقتضى ذلك التصديق ,من امتثال الأوامر واجتناب النواهي .
ـ قوله تعالى (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم بأعمالكم الصالحة والسيئة .(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/349)
3/ الإيمان باليوم الآخر في هذه الآية :
في قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)سورة التغابن (9ـ 10)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله به الأولين والآخرين , ويقفهم موقفاّ هائلاّ عظيماّ, وينبئهم بما عملوا
فحينئذ يظهر الفرق والتفاوت بين الخلائق :
ـ يرفع أقوام إلى أعلى عليين في الغرف العاليات ,والمنازل المرتفعات ,المشتملة على جميع للذات والشهوات.
ـ ويخفض أقوام إلى أسفل سافلين محل الهم والغم ,والحزن ,والعذاب الشديد , وذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم ,وأسلفوه أيام حياتهم.
ولهذا قال (يَوْمُ التَّغابُنِ)
أي: يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلائق ,ويغبن المؤمنون الفاسقين ,ويعرف المجرمون أنهم على غير شيء ,وأنهم هم الخاسرون .
فكأنه قيل: بأي شيء يحصل الفلاح والشقاء والنعيم والعذاب؟
فذكر تعالى أسباب ذلك :
بقوله تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ) أي: إيماناّ تاماّ ,شاملاّ لجميع ما أمر الله بالإيمان به
ـ قوله تعالى (وَيَعْمَلْ صالِحاً) من الفرائض والنوافل من أداء حقوق الله وحقوق عباده.
ـ قوله تعالى(وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فيها ما تشتهيه الأنفس ,وتلذ الأعين ,وتختاره الأرواح ,وتحن إليه القلوب ,ويكون نهاية كل مرغوب (خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
ـ قوله تعالى(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي: كفروا بها من غير مستند شرعي ولا عقلي , بل جاءتهم الأدلة والبينات , فكذبوا بها , وعاندوا ما دلت عليه.
ـ قوله تعالى(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لأنها جمعت كل بؤس وشدة , وشقاء وعذاب .(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 350)
صل الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق