تفسير جزء تبارك سورة الملك (2)
قـــولــه تـعــالى
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
* إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ
الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ
أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ*فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً
لِأَصْحابِ السَّعِيرِ * إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
* هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا
مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) سورة
الملك : الآيات 6 الى15]
1)الوعد والوعيد في هذه الآيات.
أ) الوعيد في هذه الآيات:
في قوله تعالى (وَلِلَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذا أُلْقُوا فِيها
سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما
أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قالُوا بَلى
قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ
إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا
فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ *فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (سورة الملك : الآيات 6 الى 11]
* قال تعالى ( وَأعتدنا لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِير* إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً
وَهِيَ تَفُورُ)ُالملك(6ـ7)
قال ابن كثير:
أَيْ بِئْسَ الْمَآلُ وَالْمُنْقَلَبُ
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي الصِّيَاحَ وَهِيَ تَفُورُ(تفسير الطبري 12/ 166.)
قَالَ الثَّوْرِيُّ: تَغْلِي بِهِمْ كَمَا يَغْلِي الْحَبُّ
الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ(تفسير ابن كثير 4/509)
* قال تعالى(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)الملك (8)
قال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله:
أي : تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضاَ , وتنقطع من شدة غيضها
على الكفار فما ظنك ماتفعل بهم , إذا حصلوا فيها ؟!
ثم ذكر توبيخ الخزنة لأهلها (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَذِيرٌ)؟
أي: حالكم هذا واستحقاقكم النار ,كأنكم لم تخبروا عنها , ولم تحذركم
النذر منها .(التفسير
الثمين للشيخ محمد العثيمين 10/363)
* قال تعالى (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا
وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)الملك (9)
قال ابن كثير :
يَذْكُرُ تَعَالَى عَدْلَهُ فِي خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا
إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ.
وَهَكَذَا عَادُوا على أنفسهم بالملامة وندموا حيث لَا
تَنْفَعُهُمُ النَّدَامَةُ فَقَالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا
فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أَيْ لَوْ كَانَتْ لَنَا عُقُولٌ نَنْتَفِعُ بِهَا أَوْ نَسْمَعُ
مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْحَقِّ، لَمَا كُنَّا عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ
الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالإغْتِرَارِ بِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا فَهْمٌ نَعِي
بِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا كَانَ لَنَا عَقْلٌ يُرْشِدُنَا إِلَى اتِّبَاعِهِمْ.
(تفسير
ابن كثير 4/ 509)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى
يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ النَّارَ إِلَّا وَهُوَ
يَعْلَمُ أن النار أولى به من الجنة» المسند 4/ 260، 5/ 293.
في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
* هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا
مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)الملك (12ـ 15)
* قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)الملك (12)
قال ابن كثير :
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنْ يَخَافُ مَقَامَ رَبِّهِ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنِ النَّاسِ فَيَنْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي وَيَقُومُ
بِالطَّاعَاتِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إلا الله تعالى بأنه له مغفرة وأجر كبير أي
تكفر عَنْهُ ذُنُوبَهُ وَيُجَازَى بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ،
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ» فَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا
دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلًا
تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ
« أخرجه
البخاري في الأذان باب 36، ومسلم في الزكاة حديث 91.» .
* قال تعالى (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ )الملك (13ـ 14)
قال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله.
هذا إخبار من الله بسعة علمه ,وشمول لطفه
ـ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) أي: كلها سواء لديه .لا يخفى عليه منها
خافية
ـ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)أي : بما فيها من النيات , والإرادات
فكيف بالأقوال والأفعال ,التي تسمع وترى؟!
ـ (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ثم قال مستدلاَ بدليل عقلي على علمه ـ
فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه , فكيف لا يعلمه؟!
ـ (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الذي لطف علمه وخبره ,حتى أدرك السرائر
والضمائر , والخبايا والخفايا والغيوب. (التفسير
الثمين للشيخ محمد العثيمين 10/364)
2) التأمل في آيات الله الكونية .
* قال تعالى(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً
فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)الملك (15)
قال ابن كثير :
ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي تَسْخِيرِهِ لَهُمُ الْأَرْضَ
وَتَذْلِيلِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ بِأَنْ جعلها قارة ساكنة لا تميد وَلَا تَضْطَرِبُ
بِمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ وَأَنْبَعَ فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ، وَسَلَكَ
فِيهَا مِنَ السبل، وهيأ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَمَوَاضِعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ.
ـ قال تعالى ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا
فَامْشُوا فِي مَناكِبِها)
أَيْ فَسَافِرُوا حَيْثُ شِئْتُمْ
مِنْ أَقْطَارِهَا وَتَرَدَّدُوا فِي أَقَالِيمِهَا وَأَرْجَائِهَا فِي أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ
وَالتِّجَارَاتِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَعْيَكُمْ لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئًا إِلَّا
أَنْ يُيَسِّرَهُ اللَّهُ لَكُمْ.
ـ قال تعالى (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) فَالسَّعْيُ فِي السَّبَبِ لَا يُنَافِي
التَّوَكُّلَ.
كَمَا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ هُبَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ أَبَا تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ
سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ:
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ
كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا «2» وَتَرُوحُ بِطَانًا» «3» رَوَاهُ «4» التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَأَثْبَتَ لَهَا
رَوَاحًا وَغُدُوًّا لِطَلَبِ الرِّزْقِ مَعَ تَوَكُّلِهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَهُوَ الْمُسَخِّرُ الْمُسَيِّرُ الْمُسَبِّبُ. المسند
1/ 30، 52.
(2) الخماص: الجياع.
(3) البطان: امتلاء البطن، والشبع.
(4)أخرجه الترمذي في الزهد باب 33، وابن ماجة في الزهد باب 14.
ـ قال تعالى (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أَيِ الْمَرْجِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(تفسير ابن كثير 4/ 510)
صل الله على نبينا محمد
وعلى اله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق