جزء تبارك (سورة الإنسان (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) سورة الإنسان (1ـ 10)
1) مسائل العقيدة في الآيات.
* بداية خلق الإنسان ونشأته:
في قوله تعالى (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) سورة الإنسان (1ـ 3)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها.
ـ قوله تعالى (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) فذكر أنه مر عليه دهر طويل ـ وهو الذي قبل وجوده ـ وهو معدوم بل ليس مذكوراّ
ـ قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) ثم لما أراد الله تعالى خلقه , خلق أباه آدم من طين , ثم جعل نسله متسلسلاّ
ـ قوله تعالى (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي: ماء مهين مستقذر
ـ قوله تعالى (نَبْتَلِيهِ) بذلك لنعلم هل يرى حاله الأولى ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه ؟
ـ قوله تعالى (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فأنشأه الله , وخلق له القوى الباطنة والظاهرة , كالسمع والبصر , وسائر الأعضاء , فأتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده , ثم أرسل إليه الرسل , وأنزل عليه الكتب , وهداه الطريق الموصلة إليه وبينها , ورغبه فيها , وأخبره بما له عند الوصول إلى الله.
ـ قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ورهبه منها , وأخبره بما له إذا سلكها , وابتلاه بذلك
فانقسم الناس :
ـ إلى شاكر لنعمة الله عليه ,قائم بما حمله الله من حقوقه .
ـ وإلى كفور لنعمة الله عليه , أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية , فردها , وكفر بربه , وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك.
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«كل النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا أَوْ مُعْتِقُهَا» « أخرجه مسلم في الطهارة حديث(1)
2) الوعد والوعيد في الآيات:
في قوله تعالى (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) سورة الإنسان (4ـ 6)
* الوعيد في الآية :
في قوله تعالى (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً)
ـ قوله تعالى (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أي: إنا هيأنا وأرصدنا لمن كفر بالله , وكذب رسله , وتجرأ على المعاصي .
ـ قوله تعالى (سَلاسِلَ ) في نار جهنم.
ـ قوله تعالى (وَأَغْلالاً ) تغل بها أيديهم إلى أعناقهم ويوثقون بها .
ـ قوله تعالى (وَسَعِيراً) أي: ناراّ تستعر بها أجسامهم وتحرق بها أبدانهم ,وهذا العذاب دائم لهم أبدا ,مخلدون فيه سرمداّ.
* الوعد في الآيات
في قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً)سورة الإنسان (5ـ6)
ـ قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ) وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة الله ومعرفته , والأخلاق الجميلة , فبرت جوارحهم , واستعملوها بأعمال البر .
ـ قوله تعالى (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) أي: شراب لذيذ من خمر.
ـ قوله تعالى (كانَ مِزاجُها كافُوراً) قد مزج بكافور أي: خلط به ليبرده ويكسر حدته , وهذا الكافور في غاية اللذة قد سلم من كل مكدر ومنغص , موجود في كافور الدنيا .
فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي في الدنيا تعدم في الآخرة.
ـ قوله تعالى (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ) أي: ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به, لا يخافون نفاذه بل له مادة لا تنقطع , وهي عين دائمة الفيضان والجريان .
ـ قوله تعالى (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) يفجرها عباد الله تفجيراّ , أنى شاءوا , وكيف أرادوا
فإن شاءوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات ,أو إلى الرياض الناضرات , أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات , أو إلى أي: جهة يرونها من الجهات المونقات .(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/396ـ 397)
* قال ابن كثير :
أَيْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاؤُوا وَأَيْنَ شَاؤُوا مِنْ قُصُورِهِمْ وَدُورِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ، وَالتَّفْجِيرُ هُوَ الْإِنْبَاعُ
كَمَا قَالَ تَعَالَى( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90]
وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يَقُودُونَهَا حَيْثُ شاءوا
وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يصرفونها حيث شاءوا.(تفسير ابن كثير 4/ 583)
3) الأحكام الشرعية في الآيات.
* من أنواع العبادة (النذرـ الخوف ـ الصدقة )
في قوله تعالى(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) سورة الإنسان (7ـ 10)
* قال ابن كثير :
أَيْ يَتَعَبَّدُونَ لِلَّهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ وَمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ النَّذْرِ.(تفسير ابن كثير 4/ 583)
· النذر .
النذر :هو إلزام الأنسان نفسه بشيء ما.
النذر قسمان :
1- نذر عام :
وهو ما يطلق على العبادات المفروضة لأن العبادات الواجبة إذا شرع فيها الأنسان فقد التزم بها.
قال تعالى {"ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }( سورة الحج آية (29)
وقد امتدح الله سبحانه القائمين به .
قال تعالى{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}( سورة الإنسان آية (7)
2- نذر خاص:
وهو إلزام الأنسان نفسه بشيء لله عز وجل .(شرح ثلاثة الأصول للشيخ محمد بن صالح العثيمين صـ 68)
وهو قسمان :
أ- نذر مطلق
وهو لا يكون بمقابل بأن يوجب على نفسه عبادة لله بدون مقابل مثلا: لله علي نذر أن أصلي الليلة عشر ركعات .
ب- نذر مقيد
وهو أن يكون بمقابل : بأن يوجب على نفسه عبادة لله بمقابل مثلا :إذا شفا الله ابني لله علي نذر أن أصوم ثلاثة أيام , وهذا النوع مكروه لأن العبد لا يتقرب إلى الله بمقابل وإنما يعبد الله لأن الله مستحق للعبادة بدون مقابل , وإنما سيتخرج من البخيل ,
والوفاء كلا الأمرين في نذر المطلق ونذر المقيد واجب.( شرح كتاب ثلاثة الأصول للشيخ صالح آل الشيخ )
حكم النذر :
مكروه نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن النذر وقال :
(إنه لا يأتي يخير وإنما يستخرج به من البخل)( اخرجه البخاري : كتاب القدر , ومسلم : كتاب النذر )
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ. أخرجه البخاري في الأيمان باب 28، ومالك في النذور حديث 8. [.....]
* قال الشيخ محمد العثيمين :
ـ قوله تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي: بما ألزموا به أنفسهم لله من النذور والمعاهدات ,وإذا كانوا يوفون بالنذر , وهو لم يجب عليهم ,إلا بإيجابهم على أنفسهم , كان فعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية , من باب أولى وأحرى.
ـ قوله تعالى (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي: منتشراّ فاشياّ , فخافوا أن ينالهم شره, فتركوا كل سبب موجب لذلك .
* قال ابن كثير :
َيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا خِيفَةً مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْمَعَادِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي شَرُهُ مُسْتَطِيرٌ أَيْ مُنْتَشِرٌ عَامٌّ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ.(تفسير ابن كثير 4/ 583)
ـ قوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أي: وهم في حال يحبون المال والطعام ,لكنهم قدموا محبة على محبة نفوسهم .
وَفِي الصَّحِيحِ :
«أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمَلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ» أَيْ فِي حَالِ مَحَبَّتِكَ لِلْمَالِ وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَحَاجَتِكَ إِلَيْهِ.(أخرجه مسلم في الزكاة حديث 92).
ـ قوله تعالى (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم.
ـ قوله تعالى (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) ويقصدون بإنفاقهم وإطعامهم وجه الله تعالى
ـ قوله تعالى ( لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي: لا جزاء مالياّ ولا ثناء قولياّ.
ـ قوله تعالى (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) أي شديد الجهمة والشر .
ـ قوله تعالى (قَمْطَرِيراً) أي: ضنكاّ ضيقاّ.(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 397)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ. لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً أَيْ إِنَّمَا نَفْعَلُ هَذَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَتَلَقَّانَا بِلُطْفِهِ فِي الْيَوْمِ الْعَبُوسِ الْقَمْطَرِيرِ.(تفسير ابن كثير 4/ 584)
صل الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق