جزء الذاريات (تفسير سورة الذاريات(4)
قــــال تــعـــالــى
(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ *فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)سورة الذاريات(47ـ 60)
مسائل العقيدة في الآيات :
* بيان قدرة الله تعالى وإخلاص العبادة له:
في قوله تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) سورة الذاريات (47ـ 51)
* قال ابن كثير :
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ
ـ قوله تعالى(وَالسَّماءَ بَنَيْناها ) أَيْ جَعَلْنَاهَا سَقْفًا مَحْفُوظًا رَفِيعًا.
ـ قوله تعالى (بِأَيْدٍ) أَيْ بِقُوَّةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ
ـ قوله تعالى (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) أي قد وسعنا أرجاءها فرفعناها بِغَيْرِ عَمِدٍ حَتَّى اسْتَقَلَّتْ كَمَا هِيَ .
ـ قوله تعالى (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها ) أَيْ جَعَلْنَاهَا فِرَاشًا لِلْمَخْلُوقَاتِ .
ـ قوله تعالى (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أَيْ وَجَعَلْنَاهَا مَهْدًا لِأَهْلِهَا.
ـ قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أَيْ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ أَزْوَاجٌ سَمَاءٌ وَأَرْضٌ وَلَيْلٌ وَنَهَارٌ، وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ وَبَرٌّ وَبَحْرٌ وَضِيَاءٌ وَظَلَامٌ، وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ وَمَوْتٌ وَحَيَاةٌ وَشَقَاءٌ وسعادة وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات
ولهذا قال تعالى(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أَيْ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْخَالِقَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
ـ قوله تعالى(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) أَيِ الجؤوا إِلَيْهِ وَاعْتَمِدُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ.
ـ قوله تعالى (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .(تفسير ابن كثير 4/301)
ـ قوله تعالى (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) كرر ذلك لأهمية الموضوع، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الاتعاظ والانتفاع بآيات الله تعالى، إنه على كل شيء قدير. (التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 197)
* تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام
في قوله تعالى(كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ* فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)سورة الذاريات (52ـ 55)
* قال ابن كثير :
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا قَالَ لَكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَالَ الْمُكَذِّبُونَ الْأَوَّلُونَ لِرُسُلِهِمْ.( تفسير ابن كثير 4/ 302)
* قال محمد العثيمين:
ـ قوله تعالى{ كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } يعني أن الأمر الذي حصل لك يا محمد حصل لمن قبلك.
فقوله تعالى (كَذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر كذلك، يعني أن أمر الأمم السابقة كأمر هؤلاء الذين كذبوك يا محمد.
ـ قوله تعالى { مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ) يعني ما أتاهم رسول إلا قالوا كذا.
ـ قوله تعالى (إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ } ساحر باعتبار تأثيره وبيانه وبلاغته.
ـ قوله تعالى (أَوْ مَجْنُونٌ) باعتبار تصرفاته، لأن هذا التصرف في نظر هؤلاء المكذبين جنون.
نسأل الله العافية، وفي هذا تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الإنسان إذا علم أن غيره أصابه ما أصابه تسلى بذلك،(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 197)
* قال ابن كثير :
أَتَواصَوْا بِهِ؟ أَيْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ
ـ قوله تعالى(بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) هُمْ قَوْمٌ طُغَاةٌ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فَقَالَ مُتَأَخِّرُهُمْ كَمَا قَالَ مُتَقَدِّمُهُمْ.
ـ قَالَ تَعَالَى( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ
ـ قال تعالى(فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) يَعْنِي فَمَا نَلُومُكَ عَلَى ذَلِكَ.(تفسير ابن كثير 4/ 302)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
ـ قوله تعالى(وَذَكِّرْ ) أي: ذكر الناس بآيات الله وبأيامه
وشرائعه: وما أوجب الله على العباد.
وبأيامه: عقابه تبارك وتعالى للمكذبين وإثابته للطائعين.
ـ قوله تعالى (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) يقبلونها بكل رحابة صدر وبكل طمأنينة.
وفيها أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون، وأن من لا ينتفع بالذكر فهو ليس بمؤمن: إما فاقد الإيمان، وإما ناقص الإيمان،
وفي الآية دليل على أنه كلما كان الإيمان أقوى كان الانتفاع بالذكرى أعظم وأشد. (التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 198)
* الغاية من خلق الخلق:
في قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)سورة الذاريات (56ـ 60)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
ـ قوله تعالى{ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ } أي ما أوجدتهم بعد العدم إلا لهذه الحكمة العظيمة، وهي عبادة الله تبارك وتعالى، وحده لا شريك له.
واللام في قوله {ليعبدون} أي لأجل أن يعبدون، حيث آمرهم فيمتثلوا أمري.
لكن اللام هنا لبيان الحكمة الشرعية في خلق الجن والإنس.
والجن :عالم غيبي خلقوا من نار، لأن أباهم هو إبليس.
* سبب تسميتهم بالجن :
لأنهم مستترون عن الأعين، حيث إنهم يروننا ولا نراهم، هذا هو الأصل أنهم عالم غيبي، لكن قد يظهرون أحياناً.
والأصل فيهم: أنهم كالإنس منهم المسلمون، ومنهم غير المسلمين، ومنهم الصالحون ومنهم دون ذلك.
* يمتاز الإنس عن الجن :
الإنس يفضلونهم بأنهم أحسن منهم :
1) حيث الابتداء، حيث إنهم خلقوا من الطين، من التراب، من صلصال كالفخار، وأما أولئك الجن فخلقوا من النار.
2) يمتاز الإنس عنهم بأن منهم الرسل والأنبياء، وأما الجن فليس منهم رسل، ولكن منهم نُذر، يبلغونهم الرسالات من الإنس.
كما في قول الله تعالى { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ }الاحقاف:29
والعبادة تطلق على معنيين:
الأول: التعبد، يعني فعل العبد، فيقال: تعبد لله عبادة.
والثاني: المتعبد به.
قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
(اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) ، فهي اسم جامع لكل شيء، فالصلاة عبادة، والصدقة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والأمر بالمعروف عبادة، والنهي عن المنكر عبادة، وكل ما يقرب إلى الله من قول، أو فعل فإنه عبادة.(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 199)
ـ قال تعالى (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)
* قال ابن كثير :
أنه تبارك وتعالى خَلَقَ الْعِبَادَ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَمَنْ أَطَاعَهُ جَازَاهُ أَتَمَّ الْجَزَاءِ، وَمِنْ عَصَاهُ عَذَّبَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ بَلْ هُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ. فَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَأَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» «أخرجه البخاري في التوحيد، باب 3، وأبو داود في الحروف باب 25، والترمذي في القرآن باب 6.
ـ قوله تعالى( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) أَيْ نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ .
ـ قوله تعالى (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أَيْ فلا يستعجلوا ذلك فإنه واقع لَا مَحَالَةَ.(تفسير ابن كثير 4/302ـ 303)
ـ قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ويل: بمعنى الوعيد والعذاب، يعني أنه يتوعدهم - عز وجل - من هذا اليوم الذي يوعدون وهو يوم القيامة؛ يوماً عسيراً عليهم، لأنهم كفرة والعياذ بالله.(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 201)
تم بحمد الله تفسير (سورة الذاريات)
صل الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق