جزء قَدْ سَمِعَ (سورة الحشر (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ* وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)سورة الحشر (1ـ 4)
1) تسمية السورة:
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ سُورَةُ الْحَشْرِ، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هُشَيْمٍ بِهِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:
قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ سورة بني النضير »أخرجه البخاري في تفسير سورة 59، باب 1، ومسلم في التفسير حديث 31.
2) القصص القرآنية .
قصة بني النضير مع الرسول عليه الصلاة والسلام :
* قال الشيخ محمد العثيمين :
(هذه السورة تسمى "سورة بني النضير " وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب المدينة ,وقت بعثة النبي صل الله وعليه وسلم ,فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام كفروا به في جملة من كفر من اليهود ,فلما هاجر النبي إلى المدينة هادن سائر طوائف اليهود الذين هم جيرانه في المدينة .
فلما كان بعد وقعة بدر بستة أشهر أو نحوها ,خرج إليهم النبي وكلمهم أن يعينوه في دية* الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري, فقالوا : نفعل يا أبا القاسم اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك ,فخلا بعضهم ببعض ,وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم , فتآمروا بقتلة ,وقالوا :أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟
فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا , فقال لهم سلام بن مشكم : لا تفعلوا فو الله ليخبرن بما هممتهم به, وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه
وجاء الوحي على الفور إليه من ربه , بما هموا به , فنهض مسرعاّ, فتوجه إلى المدينة ,ولحقه أصحابه
فقالوا : نهضت ولم نشعر بك , فأخبرهم بما همت يهود به.
وبعث إليهم رسول الله صل الله عليه وسلم "أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ,وقد أجلتكم عشراّ, فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه".
فأقاموا أياماّ يتجهزون , وأرسل إليهم المنافق عبدالله بن أبي بن سلول
( أن لا تخرجوا من دياركم ,فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ,فيموتون دونكم , وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان )
وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له , وبعث إلى رسول الله يقول :إنا لا نخرج من ديارنا ,فاصنع ما بدالك.
فكبر رسول الله صل الله عليه وسلم وأصحابه ,ونهضوا إليهم ,وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء .
فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة , واعتزالتهم قريظة ,وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان
فحاصرهم رسول الله صل الله عليه وسلم ,وقطع نخلهم وحرق.
فأرسلوا إليه : نحن نخرج من المدينة .
فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم ,وذراريهم ,وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح ,وقبض رسول صل الله عليه وسلم الأموال والسلاح .
وكانت بنو النضير , خالصة لرسول الله عليه صل الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ,ولم يخمسها , لأن الله أفاءها عليه ,ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب ,وأجلاهم إلى خبير وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم ,واستولى على أرضهم وديارهم ,وقبض السلاح ,فوجد خمسين درعاّ, وخمسين بيضة ,وثلاثمائة وأربعين سيفاّ, هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير.(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 326)
ـ سبب الدية:
ـ قال ابن كثير :
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي والسِّيَرِ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ أَصْحَابُ بِئْرِ مَعُونَةَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا سَبْعِينَ وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَكَانَ مَعَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَانٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرٌو
فَلَمَّا رَجَعَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ قَتَلْتَ رَجُلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا» وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي عَامِرٍ حِلْفٌ وَعَهْدٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكانت مَنَازِلُ بَنِي النَّضِيرِ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَمْيَالٍ منها شرقيها.(تفسير ابن كثير4/423 )
2) مسائل العقيدة في الآيات .
* تنزيه الله عما لا يليق بجلاله:
في قوله تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)سورة الحشر (1)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
افتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض تسبح بحمده ربها , وتنزهه عما لا يليق بجلاله ,وتعبده وتخضع لجلاله
لأنه العزيز الذي قد قهر كل شيء , فلا يمتنع عليه شيء ,ولا يستعصي عليه مستعص الحكيم في خلقه وأمره ,فلا يخلق شيئاّ عبثاّ , ولا يشرع مالا مصلحة فيه ,ولا يفعل إلا ما هو مقتضي حكمته.(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 326)
* نصرة الله لرسوله عليه الصلاة والسلام
في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ)(سورة الحشر:2)
* قال الشيخ محمد العثيمين :
ـ قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ )نصر الله لرسوله صل الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها , وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صل الله عليه وسلم فجلوا إلى خيبر
ودلت الآية الكريمة أن لهم حشراّ وجلاء غير هذا , فقد وقع حين أجلاهم النبي صل من خيبر , ثم عمر رضي الله عنه ,أخرج بقيتهم منها .
ـ قوله تعالى(مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ) من ديارهم لحصانتها ,ومنعتها ,وعزهم فيها .
ـ قوله تعالى(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) فأعجبوا بها وغرتهم ,وحسبوا أنهم لا ينالون منها ,ولا يقدروا عليها أحد ,
قدر الله وراء ذلك كله , لا تغني عنه الحصون والقلاع , ولا تجدي فيهم القوة والدفاع.
ـ قوله تعالى(فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) أي: من الأمر والباب ,الذي لا يخطر ببالهم أن يؤتوا منه .
ـ قوله تعالى (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) وهو الخوف الشديد ,الذي هو جند الله الأكبر ,الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة , ولا قوة ولا شدة , فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها واطمأنت نفوسهم إليها .
ومن وثق بغير الله فهو مخذول , ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال
فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم ,التي هي محل الثبات والصبر ,أو الخور والضعف ,فأزال الله قوتها وشدتها وأورثها ضعفاّ وخوراّ وجبناّ .
ولهذا قال تعالى (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وذلك أنهم صالحوا النبي صل ,على أنهم ما حملت الإبل. فنقضوا لذلك كثيراّ من سقوفهم , التي استحسنوها ,وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم , فهم جنوا على أنفسهم ,وصاروا عون عليها
ـ قوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ) أي: البصائر النافذة , والعقول الكاملة ,فإن في هذا معتبراّ يعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق ,المتبعين لأهوائهم ,الذين لم تنفعهم عزتهم ,ولا منعتهم قوتهم حين جاءهم أمر الله.(التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 326)
3) الوعد والوعيد في الآيات.
* الوعيد في الآيات:
في قوله تعالى (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)سورة الحشر (3ـ 4)
* قال ابن كثير:
ـ قوله تعالى (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ )أَيْ لَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْجَلَاءَ وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لَكَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَذَابٌ آخَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَنَحْوُ ذَلِكَ
قَالَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ والسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ :لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مَعَ ما أعد لهم في الدار الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.(تفسير ابن كثير 4/ 424)
* قال الشيخ محمد العثيمين:
ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة , وأن الله خفف عنهم .
فلولا أنه كتب عليهم الجلاء الذي أصابهم وقضاه عليهم وقدره بقدره الذي لا يبدل ولا يغير ,لكان لهم شأن اخر من عذاب الدنيا ونكالها , ولكنهم وان فاتهم العذاب الشديد الدنيوي ,فإن لهم في الآخرة عذاب النار, فما أعد الله لهم من العذاب في الآخر أعظم وأطم. (التفسير الثمين الشيخ محمد العثيمين 10/ 326ـ 327)
ـ قوله تعالى(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ )
* قال ابن كثير :
أَيْ: إِنَّمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكَذَّبُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ( وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(تفسير ابن كثير 4/425)
صل الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق